[b]صيام شعبان (2-2)
وفي
إحياء الوقت المغفول عنه بالطاعة فوائد ؛ منها :
أنه يكون أخفى وإخفاء
النوافل وإسرارها أفضل لاسيما الصيام فإنه سر بين العبد وربه ولهذا قيل :
إنه ليس فيه رياء وقد صام بعض السلف أربعين سنة لا يعلم به أحد كان يخرج من
بيته إلى سوقه ومعه رغيفان فيتصدق بهما ويصوم فيظن أهله أنه أكلهما و يظن
أهل السوق أنه أكل في بيته، وكانوا يستحبون لمن صام أن يظهر ما يخفي به
صيامه فعن ابن مسعود : أنه قال : إذا أصبحتم صياما فأصبحوا مدهنين و قال
قتادة : يستحب للصائم أن يدهن حتى تذهب عنه غبرة الصيام، وقال أبو التياح :
أدركت أبي ومشيخة الحي إذا صام أحدهم ادهن ولبس صالح ثيابه واشتهر بعض
الصالحين بكثرة الصيام فكان يجتهد في إظهار فطره للناس حتى كان يقوم يوم
الجمعة والناس مجتمعون في مسجد الجامع فيأخذ إبريقا فيضع بلبلته في فيه و
يمصه ولا يزدرد منه شيئا ويبقى ساعة كذلك ينظر الناس إليه فيظنون أنه يشرب
الماء وما دخل إلى حلقه منه شيء، وهكذا يستر الصادقون أحوالهم وريح الصدق
ينم عليهم، وما أسر أحد سريرة إلا ألبسه رداءها علانية . وإن كان في فعل
هذا الرجل الصالح تكلف لم يأمر به الشرع ولم يفعل مثله النبي صلى الله عليه
و سلم والصحابه رضوان الله عليهم .
ومنها : أنه أشق على النفوس، وأفضل الأعمال أشقها على النفوس وسبب
ذلك أن النفوس تتأسى بما تشاهد من أحوال أبناء الجنس فإذا كثرت يقظة الناس
وطاعاتهم كثر أهل الطاعة لكثرة المقتدين بهم فسهلت الطاعات، وإذا كثرت
الغفلات وأهلها تأسى بهم عموم الناس فيشق على نفوس المستيقظين طاعاتهم لقلة
من يقتدون بهم فيها؛ ولهذا المعنى قال النبي صلى الله عليه و سلم ( للعامل منهم أجر خمسين منكم ) رواه أبو داود
والترمذي .
و قال : ( بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى
للغرباء ) رواه مسلم، وفي رواية عند الطبراني قيل : ( ومن الغرباء قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس )
وفي صحيح مسلم من حديث معقل بن يسار عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ( العبادة في الهرج كالهجرة إلي ) وخرجه
الإمام أحمد ولفظه ( العبادة في الفتنة كالهجرة
إلي ) وسبب ذلك أن الناس في زمن الفتن يتبعون أهواءهم ولا يرجعون
إلى دين فيكون حالهم شبيها بحال الجاهلية فإذا انفرد من بينهم من يتمسك
بدينه ويعبد ربه ويتبع مراضيه ويجتنب مساخطه كان بمنزلة من هاجر من بين أهل
الجاهلية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمنا به متبعا لأوامره مجتنبا
لنواهيه .
ومنها أن المنفرد بالطاعة بين أهل المعاصي والغفلة قد يدفع البلاء
عن الناس كلهم فكأنه يحميهم ويدافع عنهم، قال بعض السلف : ذاكر الله في
الغافلين كمثل الذي يحمي الفئة المنهزمة ولولا من يذكر الله في غفلة الناس
لهلك الناس، ورأى جماعة من المتقدمين في منامهم كأن ملائكة نزلت إلى بلاد
شتى فقال بعضهم لبعض : اخسفوا بهذه القرية فقال بعضهم : كيف نخسف بها وفلان
قائم يصلي .
وقد
قيل في تأويل قوله تعالى : ( ولولا دفع الله
الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ) أنه يدخل فيها دفعه عن العصاة بأهل
الطاعة وجاء في الأثر : أن الله يدفع بالرجل الصالح عن أهله وولده وذريته
ومن حوله، وقال مكحول : ما دام في الناس خمسة عشر يستغفر كل منهم كل يوم
خمسا وعشرين مرة لم يهلكوا بعذاب عامة والآثار في هذا المعنى كثيرة جدا .
وقد
روي في صيام النبي صلى الله عليه وسلم شعبان معنى آخر وهو أنه تنسخ فيه
الآجال فروي بإسناد فيه ضعف عن عائشة قالت : ( كان أكثر صيام رسول الله صلى
الله عليه وسلم في شعبان فقلت : يا رسول الله أرى أكثر صيامك في شعبان ؟
قال : ( إن هذا الشهر يكتب فيه لملك الموت من
يقبض فأنا لا أحب أن ينسخ اسمي إلا وأنا صائم ) وقد روي مرسلا وقيل
إنه أصح .
وروي
في ذلك معنى آخر وهو ( أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يصوم من كل شهر
ثلاثة أيام وربما أخر ذلك حتى يقضيه بصوم شعبان ) رواه الطبراني عن عائشة
رضي الله عنها، ورواه غيره وزاد : قالت عائشة : ( فربما أردت أن أصوم فلم
أطق حتى إذا صام صمت معه) وقد يشكل على هذا ما في صحيح مسلم عن عائشة قالت :
( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم ثلاثة أيام من كل شهر لا يبالي
من أية كان ) وفيه أيضا عنها قالت : ( ما علمته ـ تعني النبي صلى الله عليه
وسلم ـ صام شهرا كاملا إلا رمضان ولا أفطره كله حتى يصوم منه حتى مضى
لسبيله ) وقد يجمع بينهما بأنه قد يكون صومه في بعض الشهور لا يبلغ ثلاثة
أيام فيكمل ما فاته من ذلك في شعبان أو أنه صلى الله عليه و سلم كان يصوم
من كل شهر ثلاثة أيام مع الاثنين والخميس فيؤخر الثلاثة خاصة حتى يقضيها في
شعبان مع صومه الاثنين و الخميس .
وبكل
حال فكان صلى الله عليه وسلم عمله ديمة وكان إذا فاته من نوافله قضاه كما
كان يقضي ما فاته من سنن الصلاة وما فاته من قيام الليل بالنهار فكان إذا
دخل شعبان وعليه بقية من صيام تطوع لم يصمه قضاه في شعبان حتى يستكمل
نوافله قبل دخول رمضان فكانت عائشة حينئذ تغتنم قضاءه لنوافله فتقضي ما
عليها من فرض رمضان حينئذ لفطرها فيه بالحيض وكانت في غيره من الشهور
مشتغلة بالنبي صلى الله عليه و سلم فإن المرأة لا تصوم و بعلها شاهد إلا
بإذنه فمن دخل عليه شعبان وقد بقي عليه من نوافل صيامه في العام استحب له
قضاؤها فيه حتى يكمل نوافل صيامه بين الرمضانين و من كان عليه شيء من قضاء
رمضان وجب عليه قضاؤه مع القدرة و لا يجوز له تأخيره إلى ما بعد رمضان آخر
لغير ضرورة فإن فعل ذلك وكان تأخيره لعذر مستمر بين الرمضانين كان عليه
قضاؤه بعد رمضان الثاني و لا شيء عليه مع القضاء و إن كان ذلك لغير عذر
فقيل : يقضي ويطعم مع القضاء لكل يوم مسكينا وهو قول مالك والشافعي وأحمد
اتباعا لآثار وردت بذلك وقيل : يقضي ولا إطعام عليه وهو قول أبي حنيفة وقيل
: يطعم ولا يقضي وهو ضعيف .
وقد
قيل في صوم شعبان معنى آخر : أن صيامه كالتمرين على صيام رمضان لئلا يدخل
في صوم رمضان على مشقة وكلفة بل قد تمرن على الصيام واعتاده ووجد بصيام
شعبان قبله حلاوة الصيام ولذته فيدخل في صيام رمضان بقوة ونشاط ولما كان
شعبان كالمقدمة لرمضان شرع فيه ما يشرع في رمضان من الصيام وقراءة القرآن
ليحصل التأهب لتلقي رمضان وترتاض النفوس بذلك على طاعة الرحمن، وجاء بإسناد
ضعيف عن أنس قال : كان المسلمون إذا دخل شعبان انكبوا على المصاحف فقرءوها
وأخرجوا زكاة أموالهم تقوية للضعيف والمسكين على صيام رمضان . وقال سلمة
بن كهيل : كان يقال شهر شعبان شهر القراء، وكان حبيب بن أبي ثابت إذا دخل
شعبان قال : هذا شهر القراء وكان عمرو بن قيس الملائي إذا دخل شعبان أغلق
حانوته وتفرغ لقراءة القرآن . [/b]